الاعتراف
السجين 177
هذه قصة حقيقية من صميم الواقع. كتبها صاحبها وقد آثر أن يختفي اسمه لاعتبارات عائلية بحتة نقلها إلى العربية إبراهيم عياد
هل هناك حرية في غياهب السجون؟! نعم! وجدت الحرية وراء القضبان الحديدية وأنا مكبل بالسلاسل، ويجدر بي أن أعود بكم إلى الوراء لتقفوا على قصتي من بدايتها.
كان والديّ عضوين في كنيسة القديس بولس التي في مدينتنا الصغيرة. وماتت أمي وأنا في السادسة من عمري، فتولّى أبي تربيتي أنا وإخوتي متكفّلاً لنا بأسباب الحياة في بيت مسيحي تسوده العبوسة. ولما كبرت أصبحت شاباً عنيداً، صلب الرأي، فتركت المدرسة. وبعد قليل هجرت البيت لأشقّ طريقي في الحياة، فتنقلت من بلد إلى آخر أعمل بين الحين والآخر.
أخيراً وجدت عملاً مريحاً في مسبك للمعادن، ولكني سرعان ما فقدت وظيفتي بسبب إدماني على الخمر والمسكرات. في البداية لم أيأس بل عزمت مراراً كثيرة أن أبني حياتي ومستقبلي من جديد.. كان الأمل يداعبني ولكن ذهبت كل محاولاتي أدراج الرياح، وعدت مرة أخرى إلى شرب الخمر.
وفي ذات يوم اقترح عليّ أحد أصدقائي عملية سهلة لكسب النقود، وهذه العملية هي تزوير الشيكات وتزييف النقود. رفضت في بادئ الأمر، وفي النهاية قررت مشاركة صديقي بذلك. بدأت أتردّد على الحانات أقامر أنا وصديقي بهذه النقود المزيفة... ربحنا ألف جنيه، وبعد أن اقتسمنا هذا المبلغ تركني صديقي وغادر المدينة... ونصحني بأن أترك المدينة. وافقت في بادئ الأمر، ولكني في هذه الليلة أفرطت في الشراب حتى سُرقت حافظة نقودي... وفي الصباح الباكر وجدت نفسي ملقى على الأرض في أحد الأزقة القذرة والألم يسري في جسمي، وانتابتني موجة من الخوف من رجال البوليس. منذ ذلك الحين بدأت أتوارى عن الأنظار. كنت اختبئ كلما رأيت رجلاً من جنود البوليس. نفسي كانت تعذّبني ولما لم أستطع احتمال وخزات ضميري سلمت نفسي للعدالة لتقتص مني جزاء ما فعلت.
لم تدم محاكمتي طويلاً لاعترافي بكل شيء بمحض إرادتي. حُكم عليّ بالسجن لمدة أربع عشر عاماً كاملة، ثم أرسلت إلى السجن لقضاء المدة اللازمة. قبلت الحكم باستكانة واستسلام، وبعد حين انتابتني موجة من العصيان. لماذا يعاقبونني هذا العقاب الصارم وقد وفرت على رجال المباحث مجهوداً كبيراً للوصول إلى جريمتي.. استسلمت للأمر الواقع وسلكت في السجن سلوكاً مرضياً فأُطلق سراحي بعد أن كتبت تعهّداً ألا أعود إلى تعاطي المسكرات مرة أخرى. ولكن عدت إلى السجن بسبب إفراطي في الشراب. أُطلق سراحي بعد عامين آخرين، ثم قبضوا عليّ مرة أخرى بتهمة إحراز مسدس غير مرخّص وأُلقيت في السجن للمرة الثالثة.
إن فشلي في حفظ تعهداتي رماني فريسة لليأس. ففكرت في الانتحار ولكنني تذكرت أن والديّ المسيحيين علماني في صباي أن الجسد هو هيكل لله، وهو وحده صاحب التصرف في حياة الإنسان، وعمل كهذا سيؤدي بي حتماً إلى الجحيم الأبدي. عشت فترة طويلة في صراع نفسي مرير، كثيراً ما انعكس على سلوكي في السجن، فكنت أتشاجر مع الحارس. ومراراً كثيرة خرجت على قوانين السجن، فلم يجدوا علاجاً أفضل من نقلي إلى سجن آخر، وهناك التقيت بقسيس السجن الذي دعاني إلى مكتبه، وبيّن لي أن من سياسته أن يمنح كل سجين كتاباً مقدساً، واقترح عليّ أن آخذ كتاباً أقرأه في وقت فراغي. قرأت الكتاب في أول الأمر لأنه لم يكن عندي سواه، ولما وجدت متعة فيه جعلت أقرأه بنهم شديد. ومن ذلك الوقت بدأت أفكّر في الله. صليت ولكن كانت السماء كنحاس فوقي. وهكذا باءت المساومة بيني وبين الله بالفشل، ولم أحصل على البركة التي كنت أرجوها. وفي يأس ألقيت الكتاب المقدس، وأخذت تعهداً على نفسي أن لا أقرأه مرة أخرى.
أما في أعماق نفسي فقد تيقنت أني كنت كاذباً، وتملكني اليأس والخوف. شعرت بذنوبي وكانت خطاياي أمامي دائماً، أحسست بحاجتي إلى مخلص ينقذني، ولكن كبريائي وعنادي منعاني من الاتضاع أمام الرب.
وفي ليلة عيد الميلاد عام 1953، حدثت المعجزة... كنت وحيداً في زنزانتي متعباً للغاية، فاستلقيت على الأرض وعادت بي الذاكرة إلى الوراء أعواماً كثيرة ذكّرتني بترانيم العيد التي كنت أشتاق لسماعها وأنا صغير في كنيسة بلدتنا. وفجأة بدأت دموعي تتساقط.... كنت أبكي وأنتحب بقلب كسير لأني لم أقبل المسيح. لم أنتظر بل ركعت في الظلام وصليت طالباً الصفح والغفران، والخلاص من خطيتي، ومن ثم شعرت بفيضان من الفرح والسلام يغمر قلبي، وتأكدت من غفران خطاياي، فكدت أصرخ بصوت عال معبراً عن بهجتي وسروري. ومنذ تلك الليلة وأنا أقضي الليالي في الشركة مع الله وقراءة الكتاب المقدس. فتعمقت معرفتي به وازدادت محبتي له.
مرت الأيام وأخيراً أُطلق سراحي، وانتقلت إلى بلدة أخرى لأعيش بين المؤمنين. وانتهى بي المطاف إلى الزواج. كنا سعداء، لأن كلينا كان يحب المسيح. ووفّق الرب حياتنا في كل شيء. شكرت الرب من كل قلبي لأن مجرماً مثلي صار ابناً لملك الملوك ووارثاً للملكوت.
حقاً هناك حرية وراء القضبان!